مفهوم حقوق الإنسان والحريات العامة

لائحة المراجع المعتمدة:
-القرآن الكريم.
-السنة النبوية.
-الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
-العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
-العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
-الإعلان الأوروبي لحقوق الإنسان والمواطن لعام 1789.

مقدمة:

يشهد مسار إقرار أي حق ثلاث محطات رئيسية، الإستخفاف به، ثم مقاومته، وأخيرا التسليم به كأمر طبيعي. وبنفس المنطق التطوري، تخطو المجتمعات مراحل ثلاث، من حالة الفوضى إلى قبضة الإستبداد، لتستقر في رحاب الديمقراطية. وكل طور من هذه الأطوار يتميز بآليات وأدوات قد يراها البعض ضربا من التعسف، بينما يعتبرها آخرون ضرورة حتمية. غير أننا ننظر إليها كفلسفة متكاملة تعكس تطور قواعد العيش المشترك. لذا ليس مستغربا نعيق السلطة وتغريد الحرية، فبينهما يقع الحراك والصراع المجتمعي، وهو أسبق من أي نزاع فردي أو مؤسسي. هذا المشهد يثير تساؤلاً فكرياً عميقاً حول ماهية المواطنة من أنا؟ وأين أقف؟ ولماذا وُجدت؟ تقدم السياسة تفسيراً بلغة المصالح، والإقتصاد بلغة المال، والأخلاق بلغة القيم. لكن الحقيقة أبعد ما تكون عن الصراع والهمجية، إنها دعوة لعيش مشترك يحترم الإختلاف، وينبذ الضغينة، ويتطلع إلى مجتمع يرقى بقيمه ويصون الحقوق والحريات.

المطلب الأول: مفهوم حقوق الإنسان:

الفقرة الأولى: مفهوم الحق:

في جذوره اللغوية العربية، يشير مصطلح "الحق" إلى معنى الرسوخ والإستقرار واللزوم. ويتجلى في خمسة استخدامات أساسية: فهو نقيض الضلال والباطل، ومرادف لليقين والجزم. كما يعبر عن حقوق الأفراد وعلاقاتهم المتبادلة. ويشير أيضاً إلى الالتزام المفروض شرعاً وقانوناً. بالإضافة إلى ذلك، يدل على الفعل أو الشيء المباح والمجاز، سواء من الناحية الأخلاقية أو القانونية. وبالانتقال إلى المعاجم الأجنبية، نجد أن كلمة "حق" قد تتداخل مع مفهوم القانون نفسه (كما في "right" الإنجليزية أو "droit" الفرنسية). والأصل اللاتيني لكلمة "حق" يحمل دلالة السير بشكل مستقيم ومنظم وفقاً لقاعدة معينة. فالكلمة الفرنسية "droit" تعكس هذا المعنى، إذ تشير إلى مجمل القواعد التي تنظم تفاعلات الأفراد داخل المجتمع، وقد تتضمن أيضاً الإشارة إلى حقوق الإنسان.

الفقرة الثانية: مفهوم حقوق الإنسان:

أولا: التعريف العلمي لحقوق الإنسان:

يُعد تعريف رينيه كاسان، الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 1968، من أبرز التعاريف العلمية لحقوق الإنسان، حيث يرى أنه: "فرع متخصص من فروع العلوم الإجتماعية، يتناول دراسة العلاقات بين الأفراد استنادًا إلى مبدأ الكرامة الإنسانية، مع تحديد الحقوق والخيارات اللازمة لتنمية شخصية كل إنسان."
يُستخلص من هذا التعريف ثلاثة عناصر جوهرية:

1-المنهج العلمي:

التأكيد على ضرورة تبني مقاربة علمية في دراسة وتعريف حقوق الإنسان.

2-مركزية الكرامة الإنسانية:

اعتبار الكرامة الإنسانية المعيار الأساسي الذي ينبني عليه هذا العلم.

3غاية الحقوق:

البحث عن الآليات والخيارات التي تضمن صون وتعزيز الكرامة الإنسانية.

ثانيا: التعريف التقني لحقوق الإنسان:

قدم بعض الباحثين، وعلى رأسهم كارل فاساك، مقاربة تقنية تعتمد على تحليل كمي للغة القانونية، حيث توصلوا إلى تعريف مفاده أن حقوق الإنسان هي: "علم يهم كل فرد، ولا سيما العامل الذي يعيش ضمن دولة محددة، والذي يحق له، سواء كان متهمًا بانتهاك القانون أو ضحية لحالة حرب، الاستفادة من حماية القانون الوطني والدولي، على أن تتوافق حقوقه الخاصة، وعلى رأسها الحق في المساواة، مع ضرورات الحفاظ على النظام العام."
يتضح من هذا التعريف ثلاث نقاط أساسية:

1-الدولة والسلطة:

ربط مفهوم حقوق الإنسان بوجود الدولة وسلطتها القانونية.

2-الحماية القانونية:

اعتبار وجود تهديد أو خرق لحماية قانونية وطنية أو دولية سياقًا أساسيًا للحديث عن حقوق الإنسان.

3-مراعاة النظام العام:

التأكيد على ضرورة موازنة حقوق الإنسان مع متطلبات الحفاظ على النظام العام.

ثالثا: التعريف العام:

يرتبط هذا التعريف بالباحث الفرنسي إيف ماديو الذي يرى أن حقوق الإنسان هي: "دراسة الحقوق الشخصية المعترف بها على الصعيدين الوطني والدولي، والتي تضمن، في إطار حضارة معينة، الجمع بين تأكيد الكرامة الإنسانية وحمايتها، والمحافظة على النظام العام."
يُستنتج من هذا التعريف ما يلي:

1-البعد الوطني والدولي:

وجود بعدين متكاملين لحقوق الإنسان، وطني ودولي، ينبغي أن يتوافقا انطلاقًا من مبادئ عالمية وشمولية حقوق الإنسان وعدم قابليتها للتجزئة.

3-حدود الحقوق والحريات:

ضرورة مراعاة القيود المفروضة على الحقوق والحريات الشخصية بهدف الحفاظ على النظام العام.

رابعا: تعاريف أخرى ومقاربة خاصة:

تعددت التعاريف المقدمة لحقوق الإنسان، مما استدعى محاولات لتقديم تعريفات مبسطة وشاملة.

1-تعريف ليا ليفين:

يقدم ليا ليفين تعريفين متكاملين لحقوق الإنسان:
الحقوق المعنوية الطبيعية: حقوق ثابتة وأصلية للإنسان بمجرد كونه إنسانًا، تستهدف ضمان كرامته الإنسانية.
الحقوق القانونية الوضعية: حقوق تم إنشاؤها بموجب عمليات سن القوانين على المستويين الوطني والدولي.

2-تعريفنا الخاص:

يمكن تعريف حقوق الإنسان بأنها: "مجموعة المبادئ والقواعد التي تهدف إلى تحقيق سمو الإنسان، سواء استندت إلى مصادر طبيعية أو دينية أو وضعية، بما يكفل الحفاظ على كرامته الإنسانية وتعزيز العيش المشترك، مع مراعاة مقتضيات النظام العام."
يرتكز هذا التعريف على ثلاثة عناصر أساسية:
أ-سمو الإنسان:
التركيز على تعزيز المبادئ الإنسانية الأساسية مثل منع الاستعباد، وحرية التصرف، والحق في حياة كريمة.
ب-تعدد المصادر القانونية:
اعتبار القانون بمختلف مصادره (طبيعي، وضعي، وطني، دولي) أساسا لحقوق الإنسان.
ت-شمولية الغاية:
انفتاح مفهوم حقوق الإنسان على مختلف الإيديولوجيات التي تسعى إلى ضمان سيادة مظاهر الإنسانية.

الفقرة الثالثة: المفهوم الإسلامي لحقوق الإنسان:

يتميز التصور الإسلامي لحقوق الإنسان بمنهج فريد يرتكز على مفهوم "الحق" بوصفه قيمة موضوعية مستقلة عن صاحبها، ومنبثقة من الشريعة الإلهية.

أولا: مفهوم الحق في القرآن الكريم:

تتجلى دلالات كلمة "الحق" في القرآن الكريم في سياقات متعددة، مما يكشف عن شمولية هذا المفهوم وأهميته في الرؤية الإسلامية للعالم والإنسان. فقد وردت الكلمة بمعانٍ متنوعة تشمل:

1-الله سبحانه وتعالى: باعتباره مصدر كل حق وعدل:

كما في قوله تعالى: ﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾[سورة الحج الآية 62].
العلم واليقين: للدلالة على المعرفة الصحيحة والثابتة، كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾[ سورة النجم الآية 28].

2-نقيض الباطل: للتمييز بين الصدق والزيف:

كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[ سورة البقرة الآية 42].

3-شرع الله وأوامره: للإشارة إلى الأحكام والتكاليف الإلهية:

كما في قوله تعالى:﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾[ سورة المائدة الآية 48].

4-العدل والقسط: للدلالة على الإنصاف والميزان:

كما في قوله تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ ۗ وَرَبُّنَا الرَّحْمَٰنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ﴾[ سورة الأنبياء الآية 112].

5-الصدق والحقيقة: للتعبير عن القول والفعل المطابق للواقع:

كما في قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا﴾[ سورة الأحزاب الآية 53].

6-النصيب والحصة: للإشارة إلى الإستحقاق والمسؤولية تجاه الآخرين:

كما في قوله تعالى:﴿ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾[ سورة الذاريات: 19].

7-الهداية والصواب: للدلالة على الطريق المستقيم والرشاد:

كما في قوله تعالى:﴿ فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ﴾[ سورة يونس الاية 32].

ثانيا: مفهوم الحق في السنة النبوية:

تؤكد السنة النبوية على أهمية مفهوم "الحق" من خلال تفصيله وتطبيقه في مختلف جوانب الحياة. فقد وردت الكلمة في سياقات متنوعة، منها:

1-حقوق المسلم على أخيه المسلم:

حيث حددت السنة مجموعة من الواجبات المتبادلة بين المسلمين، مثل رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنازة، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس.

2-حقوق الأبناء على الآباء:

كما بينت السنة مسؤولية الوالدين تجاه أبنائهم، مثل تعليمهم السباحة والكتابة والرماية، وتنشئتهم على الحلال.
انطلاقًا من هذه الدلالات القرآنية والنبوية، يتضح أن مفهوم حقوق الإنسان في الإسلام يندرج ضمن إطار الضروريات والواجبات التي ينبغي على الأفراد والمجتمع الإلتزام بها. يشمل ذلك محاسبة أولي الأمر وحفظ النظام العام، وضمان حرية الفكر والإعتقاد والتعبير، وتوفير الإحتياجات الأساسية من مأكل وملبس ومسكن وأمن. فالإسلام ينظر إلى هذه الجوانب باعتبارها واجبات وحقوقًا متلازمة، وليست مجرد حقوق فردية معزولة.
خلاصة:
يتبين أن مفهوم حقوق الإنسان يتأرجح بين خطابين أساسيين: الخطاب الطبيعي ذو المنشأ الغربي الذي يركز على ذاتية الإنسان وحقوقه الفردية، والخطاب الديني الإسلامي الذي يستند إلى التكريم الإلهي للإنسان وما يترتب عليه من واجبات وحقوق. وعلى الرغم من اختلاف المنطلق والمرجعية، إلا أن هذين الخطابين لا يتعارضان جوهريًا في مضمونهما العام فيما يتعلق بضمان كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية.

المطلب الثاني: تعريف الحريات العامة والحريات الأساسية:

يتألف مصطلح "الحريات العامة" من كلمتين أساسيتين: "حرية" و "عامة". لذا، سنستهل هذا المطلب بتناول مفهوم الحرية لغويا واصطلاحيا، ثم ننتقل إلى تحديد المقصود بالحريات العامة.

الفقرة الأولى: المفهوم اللغوي للحرية:

أولا: مفهوم الحرية في المعاجم العربية:

تدور دلالة كلمة "الحرية" في اللغة العربية حول معنى الإباحة القانونية التي تخول الفرد فعل ما يرغب أو الإمتناع عنه، شريطة عدم الإضرار بالآخرين. وفي عموم المعاجم العربية، لا يخرج مفهوم الحرية عن معنيين رئيسيين:

1-انتفاء الإكراه:

غياب أي شكل من أشكال الإجبار البدني أو المعنوي، سواء كان مباشرًا أو غير مباشر.

2-سلطة الإختيار:

القدرة التي يتمتع بها الفرد في إطار مجتمع منظم على القيام بفعل ما أو الإحجام عنه.

ثانيا: الحرية في المعاجم الأجنبية:

في اللغة الفرنسية، يُشير مصطلح "Liberté" إلى حالة الشخص الذي لا يخضع لتبعية تامة لشخص آخر، أي عدم وجوده في وضعية عبودية.

الفقرة الثانية: المفهوم الإصطلاحي للحرية:

يتسم المفهوم الإصطلاحي للحرية بالتنوع والإختلاف تبعًا للمبادئ الفلسفية التي تستند إليها المذاهب الفردية والإشتراكية. وقد أشار الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن إلى هذا التعقيد بقوله: "إن العالم لم يصل أبدًا إلى تعريف كلمة حرية"، مما يستدعي استعراض هذا المفهوم من منظور المذاهب الكبرى المتعارف عليها عالميًا.

أولا: الحرية من منظور المذهب الفردي:

يرى جون ستيوارت ميل أن جوهر الحرية يكمن في عدم إلحاق الضرر بالآخرين، معبرًا عن ذلك بمقولته الشهيرة: "أنت حر ما لم تضر". ومع ذلك، يُعتبر هذا المعيار غير مكتمل لعدم تحديده بدقة للحدود الفاصلة بين تأثير أفعال الفرد على ذاته وعلى غيره. ويُستدل على ذلك بمثال تعاطي الخمور، الذي قد يضر بالشخص نفسه ويؤثر سلبًا على المجتمع بتحويله إلى طاقة معطلة.

ثانيا: الحرية من منظور المذهب الإشتراكي:

يذهب المنظور الإشتراكي إلى أن الحرية الحقيقية لا تتحقق إلا في المرحلة الشيوعية، حيث يزول جهاز الدولة والسلطة القسرية، مما يتيح للفرد ممارسة حريته بشكل كامل.

ثالثا: تعاريف أخرى للحرية:

1-تعريف لينز:

يرى أن الحرية هي قدرة الفرد على فعل ما يراه مناسبًا، مع التأكيد على أن الأفراد الأكثر امتلاكا للوسائل المادية يتمتعون بحرية أكبر. يُنتقد هذا التعريف لتركيزه المادي وتجاهله للجوانب المعنوية والإدراكية للحرية.

2-تعريف فولتير:

يعرف الحرية بأنها القدرة على فعل ما أريد. يُعتبر هذا التعريف قاصرًا لأنه قد يتجاهل القيود الإجتماعية وضرورة احترام إرادة الآخرين.

3-التعريف الأنطولوجي للحرية:

يتضح التعريف الأنطولوجي للحرية من خلال علاقة الإنسان بذاته، حيث تُعرف الحرية بأنها سلطة ذاتية يتمتع بها الفرد لتقرير مصيره. وبموجب هذا المبدأ، يُعتبر الإنسان سيد نفسه وحرًا في إدارة شؤونه الخاصة، مثل حرية التنقل والمظهر، دون الحاجة إلى تدخل من الآخرين. ويُلاحظ هنا أن مفهوم الحق أوسع من مفهوم الحرية، فالأخير يركز على سلطة تقرير المصير الذاتي، بينما يشمل الحق أحيانًا سلطة يمارسها الفرد على غيره.

4-التعريف السياسي للحرية:

يتناول التعريف السياسي للحرية العلاقة بين الفرد والسلطة، ويسعى إلى تحديد مجال الأنشطة التي تظل بمنأى عن الإكراهات المجتمعية. ويشمل هذا التعريف:
الحرية كمجال للمشاركة: وهي إمكانية مشاركة المواطنين في الحكم، بما في ذلك حرية التصويت والترشح والانتخاب.
الحرية كمفهوم ليبرالي مستقل: يقوم على استقلالية الأفراد وحقوقهم الأساسية تجاه السلطة، مثل الحق في التنقل والأمن والتعبير.
نستنتج من ذلك أن الحريات العامة والحريات السياسية لكل منهما مجاله الخاص، ولكنهما لا يتعارضان بل يتكاملان في ضمان حقوق الفرد في مواجهة الدولة والمجتمع.

5-تعاريف فقهية:

أ-تعريف بغود:
يرى أن الحريات العامة هي واجبات أو التزامات قانونية تقع على عاتق الدولة وتُصاغ في شكل قواعد ذات قيمة دستورية تشمل حقوق الأفراد.
ب-تعريف لبرتون:
يعرف الحريات العامة بأنها سلطات تقرير المصير التي تهدف إلى تأمين استقلال الفرد والمقررة في القواعد التشريعية، وتتمتع بحماية قانونية قوية حتى في مواجهة السلطة.
ت-تعريف روش:
يعتبر الحريات العامة هي مجموع الحريات الأساسية السائدة في دولة عصرية ليبرالية والتي تعتبر ضرورية لتحقيق الحرية الحقيقية. ويُلاحظ على هذا التعريف عدم التمييز بوضوح بين الحرية العامة والحرية الأساسية.
يتبين من هذه التعاريف الفقهية أن الحريات العامة هي في جوهرها حقوق أساسية، بينما لا تكون جميع الحقوق الأساسية بالضرورة حريات عامة بالمعنى الدقيق للمصطلح.

6-التعريف القضائي للحرية:

قدم مجلس الدولة الفرنسي عام 1947 تعريفًا قضائيًا للحريات العامة يميز بين نوعين من الحريات:
الحريات الكلاسيكية: المرتبطة بالمفهوم الفردي، مثل حرية التجول والأمن.
الحقوق الكبرى: المتعلقة بالتفاعل مع الآخرين وليس فقط بالشخص ذاته، مثل حرية التجمهر والتحزب وتأسيس الجمعيات والنقابات وحرية الصحافة والرأي والعقيدة والتعليم.

7-الحرية في الإسلام:

يقرر الإسلام أن الحرية أمر فطري يولد مع الإنسان. وعلى الرغم من أن مصطلح "الحرية" قد لا يرد في القرآن الكريم بنفس الصيغة المستخدمة في العلوم السياسية المعاصرة، إلا أن مضمونه ثابت من خلال التأكيد على مسؤولية الإنسان عن اختياره وأفعاله، كما في قوله تعالى:﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾[ سورة النجم الآية 39].
وفي السنة النبوية، تتجلى قيمة الحرية في المواقف العملية، كما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران، حيث أمنهم على أموالهم وعقيدتهم وأطفالهم ومتاعهم، ولم يمسهم بسوء، بل ضمن لهم كافة الحقوق المدنية والحماية وحرية التعبد والاعتقاد.

الفقرة الثالثة: المفهوم الإصطلاحي للحريات العامة:

تُشير كلمة "عامة" في مصطلح "الحريات العامة" إلى ارتباط هذه الحريات بمجال القانون العام والمرافق العامة والقطاع العام، مما يوحي بتدخل الدولة وأجهزتها. ومع ذلك، فقد تباينت الآراء الفقهية في تحديد دلالة هذا الوصف:

1-الاتجاه الأول:

يرى أن وصف الحرية بـ "العامة" يعني ترتب واجبات على الدولة تجاه الأفراد، سواء كانت واجبات سلبية (كعدم المساس بسلامة المواطنين) أو إيجابية (كتهيئة فرص العمل).

2-الاتجاه الثاني:

يؤكد على دور السلطة العامة في الإعتراف بالحريات وتنظيم ممارستها من خلال القانون الوضعي، تجنبًا للفوضى وضمانًا لإحترام حقوق الآخرين. ووفقًا لهذا الاتجاه، لا توجد حرية خاصة بالمعنى المطلق، بل تخضع ممارسة جميع الحريات لضوابط قانونية.

3-الاتجاه الثالث:

يذهب إلى أن وصف "عامة" يتعلق بكون ممارسة الحرية متاحة لجميع الأفراد على قدم المساواة.

الفقرة الرابعة: أنواع الحريات وأهميتها:

أولا:أنواع الحرية وتجلياتها:

تتعدد أوجه الحرية التي يتمتع بها الفرد في سياقات حياته المختلفة، ويمكن تصنيفها إلى فئات أساسية تعكس مجالات ممارسة الفرد لحقه في الاختيار والتعبير والمشاركة:

1-الحرية الفردية: استقلال الذات في دائرة الخصوصية:

تُعد الحرية الفردية حجر الزاوية في صيانة استقلالية الفرد وتقرير مصيره ضمن نطاق حياته الخاصة. إنها تتجسد في الحق الأصيل للفرد في اتخاذ القرارات المتعلقة بشؤونه الذاتية، بدءًا من الخيارات المتعلقة بنمط حياته وعلاقاته الشخصية، وصولًا إلى القرارات المصيرية التي تشكل مسار حياته. هذه الحرية تضمن للفرد مساحة آمنة للتعبير عن ذاته وتشكيل هويته بمعزل عن التدخلات غير المبررة من الآخرين أو من سلطة الدولة.

2-الحرية السياسية: حق المشاركة في تشكيل المجال العام:

تتجاوز الحرية السياسية النطاق الشخصي لتشمل حق الفرد في الانخراط الفعال في تدبير الشأن العام. لا يقتصر هذا الحق على حرية التعبير عن الرأي في القضايا العامة فحسب، بل يمتد ليشمل الحق في المشاركة في العمليات الانتخابية، سواء كناخب أو مرشح، والانضمام إلى الأحزاب والمنظمات السياسية، والمساهمة في صنع القرارات التي تؤثر في المجتمع ككل. إن الحرية السياسية هي الضمانة الأساسية للديمقراطية والمشاركة الشعبية في الحكم.

3-الحرية الاقتصادية: أساس الازدهار الفردي والمجتمعي:

تتمحور الحرية الاقتصادية حول حق الفرد في امتلاك الموارد والثروات والتصرف فيها بحرية تامة ضمن الأطر القانونية المنظمة. يشمل ذلك حقه في اختيار نوع العمل الذي يمارسه، وتأسيس المشاريع التجارية وإدارتها، والاستفادة من ثمار جهده ومبادراته. هذه الحرية تُعد محركًا أساسيًا للنمو الاقتصادي والابتكار، كما أنها تمكن الأفراد من تحقيق الاكتفاء الذاتي والمساهمة بفاعلية في التنمية الشاملة.

4-حرية الفكر والتعبير: منطلق الإبداع والتطور المعرفي:

تُشكل حرية الفكر والتعبير الركيزة الأساسية لأي مجتمع يسعى إلى التقدم والازدهار الفكري والثقافي. إنها تضمن لكل فرد الحق في تبني الأفكار والمعتقدات التي يراها مناسبة، والتعبير عنها ونشرها بمختلف الوسائل المتاحة، سواء كانت شفهية أو كتابية أو فنية أو عبر الوسائط الرقمية. هذه الحرية تحفز الحوار والنقاش البناء، وتساهم في تبادل المعارف وتلاقح الأفكار، مما يفضي إلى التطور المعرفي والثقافي للمجتمع.

5-حرية الاعتقاد: صيانة الضمير وحق التدين:

تعتبر حرية الاعتقاد من أعمق جوانب الحرية الإنسانية، حيث تضمن لكل فرد الحق المطلق في اختيار دينه ومعتقده وممارسة شعائره الدينية بحرية وأمان، دون إكراه أو تمييز. هذه الحرية تحمي التنوع الديني والثقافي في المجتمع، وتضمن احترام المعتقدات المختلفة وتعايشها بسلام.

ثانيا:أهمية الحرية:

1-الأهمية الجوهرية للحرية في بناء الحضارات:

تتجاوز أهمية الحرية كونها مجرد حق فردي لتشمل دورها المحوري في بناء مجتمعات مزدهرة ومستقرة:

أ-الحرية كحاضنة للكرامة الإنسانية: 

لا يمكن تصور كرامة إنسانية حقيقية في غياب الحرية. إن قدرة الفرد على اتخاذ القرارات التي تخص حياته والتعبير عن آرائه بحرية هي جوهر إنسانيته وتقديره لذاته.

ب-الحرية محفز للتنمية والتقدم الشامل:

المجتمعات التي تكفل الحريات الأساسية لأفرادها تكون أكثر قدرة على تحقيق التنمية المستدامة في مختلف المجالات. الحرية تشجع الإبداع والمبادرة والابتكار، وتفتح آفاقًا جديدة للتقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

ت-الحرية أساس راسخ للسلام والاستقرار المجتمعي:

عندما يشعر الأفراد بأن حقوقهم وحرياتهم مصانة، يزداد شعورهم بالانتماء والمسؤولية تجاه مجتمعهم، مما يقلل من احتمالات النزاعات والصراعات ويعزز الاستقرار والسلم الأهلي.
ختاما:
إن الحرية ليست مجرد قيمة مجردة، بل هي ضرورة حتمية لتحقيق إنسانية الإنسان وتقدم المجتمعات وازدهارها. إنها الشرط الأساسي لتمكين الأفراد والمجتمعات من تحقيق كامل إمكاناتهم وبناء مستقبل أفضل.

2-الأهمية العملية لحقوق الإنسان في بناء مجتمعات عادلة ومستقرة:

إن أهمية حقوق الإنسان تتجاوز الإطار النظري لتتجلى في تأثيرها العملي المباشر على بناء مجتمعات يسودها العدل والاستقرار والازدهار:

أ-توفير الحد الأدنى الضروري للحياة الكريمة:

تضمن حقوق الإنسان الأساسية حصول كل فرد على مقومات الحياة الكريمة، مثل الغذاء والسكن والتعليم والرعاية الصحية. هذا يُمكّن الأفراد من الاستفادة القصوى من الفرص المتاحة لهم والمساهمة بفاعلية في مجتمعاتهم.

ب-ضمان الحريات الأساسية كركيزة للاختيار والمشاركة:

تكفل حقوق الإنسان حريات الأفراد في اختيار أسلوب حياتهم والتعبير عن آرائهم والمشاركة في الحياة السياسية. هذه الحريات ضرورية لتمكين الأفراد من تحقيق ذواتهم والمساهمة في تشكيل مستقبل مجتمعاتهم.

ت-توفير الحماية من التعسف والاضطهاد:

تعمل حقوق الإنسان كحصن واقٍ للأفراد ضد أي اعتداء أو اضطهاد من قبل جهات أقوى أو سلطات أعلى. إنها تضمن مساءلة السلطة وحماية الأفراد من تجاوزاتها.

ج-حقوق الإنسان كضابط لسلطة الدولة:

تمثل حقوق الإنسان إطارًا قانونيًا وأخلاقيًا يُلزم الدولة باحترام حقوق الأفراد وحرياتهم. إنها تحد من سلطة الدولة المطلقة وتحمي الأفراد من الاستبداد والتعسف.

د-دور حاسم في تحقيق التنمية المستدامة:

تساهم حقوق الإنسان في تحقيق التنمية المستدامة من خلال ضمان مشاركة جميع أفراد المجتمع في عملية التنمية والاستفادة من ثمارها بشكل عادل ومتكافئ.

ذ-أساس السلام والأمن المجتمعي:

عندما تُحترم حقوق الإنسان وتُصان، يقل احتمال نشوب النزاعات والصراعات داخل المجتمع وبين الدول. إن احترام حقوق الإنسان يعزز الثقة والتعاون ويساهم في بناء سلام دائم.

ح-ضمان الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية للجميع:

تؤكد حقوق الإنسان على القيمة المتأصلة لكل فرد، بغض النظر عن أي اختلافات. إنها تضمن معاملة كل إنسان بكرامة واحترام.

خ-المساهمة في تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة:

تعمل حقوق الإنسان على ضمان المساواة في الحقوق والفرص لجميع أفراد المجتمع، مما يساهم في تقليل الفوارق الاجتماعية وتحقيق العدالة.